في ديسمبر 1996 حصلت على سبق صحفي من الجزائر· وحيث إنه من الجزائر وخلال تلك الحقبة الدموية المظلمة فلم يكن بالخبر الطيب· كنت اعمل في صحيفة الحياة اللندنية كمراسل متخصص في الحركات الإسلامية، فانفردت يومها بنشر خبر مقتل الشيخ محمد السعيد أحد أبرز قادة العمل الإسلامي في الجزائر على يد الجماعة الإسلامية المسلحة والتي لا تزال إلى اليوم تنشط هناك في أعمال القتل العبثي والإرهاب، وقد سبقت القاعدة في نهجها المتطرف ما يعني أن المشكلة ليست في القاعدة كتنظيم وإنما في الفكر المنحرف الذي يحركها وحرك الجماعة المسلحة من قبلها·
كيف يقتل داعية إسلامي وبشكل بشع مع غيره من قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ والدعاة الجزائريين؟ أحدهم كان الشيخ عبد الرزاق رجام الذي عمل في ربيع الديمقراطية هناك مديرا لمكتب الشيخ عباسي مدني، على يد جماعة تنتسب للإسلام ويفترض أنها تشاركهم الهم والعمل من أجل بناء الدولة الإسلامية المنشودة !
إن في قصة محمد السعيد ومأساته عبرة لمن يعتقد أن ثمة ما يجمعه مع تيار التطرف ويؤمل أن يكون معه حوار وتعاون· لم يكن السعيد متطرفاً يوما، بل كان داعية معتدلاً، نشأ متأثرا بفكر الإخوان المسلمين، وتأثر أكثــر بالمفكـــر المبــدع مالك بن نبي، فخلط بين المنهجين فأقلم حركته فسميت بـ الجزأرة -فعل ذلك غيره في مكان آخر- وانتشرت جماعته في الجامعات وبين الموظفين، وكان للسعيد دور في صياغة مذكرة الإصلاح الجزائرية ذات الاثنتي عشرة نقطة والتي شملت مطالب إصلاحية مثل العدالة وإطلاق الحريات والمحاسبة، وكان هو الذي قرأ المذكرة في اجتماع مسجد الجامعة الشهير عام 1982 في الجزائر العاصمة مؤذنا بانتقال الدعوة إلى العمل السياسي والمطالبة والمغالبة، وكان بجواره يومها الشيخ عباسي مدني زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ لاحقا·
كان السعيد حذرا، حريصا على تماسك جماعته، فلم يدخلها في الجبهة الإسلامية عندما أعلنت عام ،1989 ولكنه سمح لأعضاء تنظيمه بدخولها أفرادا وأبقى خيوط الارتباط بهم قائمة· غلبه الدهاء حتى قتله رحمه الله، فاغتنم فرصة إحدى أزمات الجبهة مع السلطة فدخلها بكامل تنظيمه في اجتماع عقد في ظروف طارئة، وتبوؤوا فيها المناصب القيادية· بعدها وقعت الكارثة وألغيت الانتخابات واعتقل معظم قادة الجبهة، وخليت الساحة للعناصر المتشددة التي لم تؤمن يوما بالتغيير الديمقراطي فأعلنوا جهادهم ودخلت الجزائر كلها في دوامة الدم· في عام 1994 بدا أن النظام يتخبط، وأن هؤلاء المجهولين أصحاب الكنيات العجيبة، القادمين من قاع الغضب الجزائري قد أوشكوا على الانتصار· فالسلاح أصبح هو أداة المطالبة والمغالبة وحظ رجال السياسة والدعاة منه قليل، والاختيار أمامهم إما المعتقل، أو الانزواء تحت الأرض أو الجبل وهو المصطلح الجزائري وقتها لمن يلتحق بالعمل المسلح· وبدأت الجزأرة في ما تعتقده استثماراً للظرف واتصلت بالجماعة المسلحة، وأخذت تقرب بين طرحها العقلاني وطرحهم المغامر المتطرف· غلبت ساعتها سياسة اقتناص الفرص على العقل والمبدأ· ولعل الجزأرة اعتقدت أنها يمكن أن تكون العقل المحرك لهذه العضلات المنفلتة، لعلهم قالوا هؤلاء الشباب هم إخواننا المجاهدون، نياتهم حسنة ويريدون الدولة الإسلامية ولكن صغر سنهم وقلة فقههم وحماستهم الزائدة، أوقعتهم في أخطاء وتجاوزات، ولو اتحدنا معهم لكنا لهم المرشدين، نخفف من غلوائهم ونستعين بقوتهم · بدت الصفقة مغرية للطرفين، فالجزأرة قوية في العاصمة في صفوف التجار والمثقفين ولها وجود في الخارج وتستطيع تدبير دعم لوجستي تحتاجه الجماعة·
في ربيع 1994 فوجئ المتابعون للوضع الجزائري بإعلان الوحدة الكاملة بين الحزب الكبير الذي فاز في الانتخابات المنحلة الإنقاذ والجماعة المسلحة الطارئة على الساحة و تحت راية الأخيرة، بل إنها أعلنت في وقت لاحق قيام الخلافة الراشدة وسمت أميرها بأمير المؤمنين· غير أن بعض الموالين لخط الإنقاذ رفضوا هذا العبث وحذروا من خطورته· أذكر وقتها أنه اتصل بي قيادي من الجزائر وفصل لي الأزمة قائلا إنهم حاولوا في البداية احتواء الجماعة وتعديل منهجها الفكري ولكن تطرفها وهجومها على معظم الرموز الإسلامية داخل الجزائر وخارجها جعل الشباب الذين التحقوا بها يتركونها واشتكى القيادي الإنقاذي من تأثير عناصر خارجية على الجماعة المسلحة قائلا إن معظم هذه الجهات غامضة والحركة الإسلامية العالمية تعاني منهم· إنهم حديثون على الساحة ولا يحترمون كبار العلماء وبالتالي فإن التعامل معهم صعب هذا الكلام منشور عام ،1994 ألا يذكرنا بما نسمعه اليوم؟
وروى لي تفاصيل فتوى وزعتها الجماعة تقول إن عباسي مدني وعلي بلحاج ضالان وبقية قادة الإنقاذ ممن لم يدخل في الجماعة محكوم عليهم بالإعدام وإن الشيخ عبد الحميد كشك لا يعي ما يقول ولا يعتد برأيه، وإن الشيخ محمد الغزالي تابع للأنظمة الطاغية وان الشيخ ناصر الدين الألباني تقدم به السن (كان هؤلاء الأفاضل على قيد الحياة وقتذاك) وهكذا لم يتركوا لنا أحداً من الع